يقول رحمه الله تعالى: (والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات) وليس في الفرائض فقط، (والانكفاف عن دقائق المكروهات) وليس عن المحرمات فقط، (والتبسط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً).فهذه درجة في الخوف أعلى من سابقتها، فهناك أناس من خوف الله يتركون التوسع في المباحات ويكتفون بالقدر الذي يكفي، كمسافر استظل تحت شجرة ورحل عنها، فيكفيهم هذا في دار العبور، وهذا الخوف درجة أعلى من درجة الخوف الواجب، فإن كان كذلك كان فضلاً، أي: زيادة محمودة.قال: (فإن تزايد على ذلك) أي: زاد الخوف من الله حتى تجاوز بالعبد فعل النوافل وترك المكروهات والتبسط في المباحات، قال: (بأن أورث مرضاً أو موتاً أو هماً لازماً بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محموداً).وطبيعة النفس الإنسانية جعلها الله سوية، وقد قيل:
إذا زاد الأمر على حده انقلب إلى ضده فمن زاد خوفه عن حده الشرعي -وهو رتبة الكمال- فإنه يفوت على صاحبه كثيراً من الأمور التي هي مشروعة ومحبوبة.يقول: (ولهذا كان السلف يخافون على
عطاء السلمي من شدة خوفه)، و
عطاء السلمي الإمام المعروف لشدة خوفه وهمه نسي القرآن، وهذه مصيبة بلا ريب، وانقطع في الفراش، فترك العبادات وترك الطاعات، وليس ذلك بإرادته، ولكن أصبح هذا شأنه وديدنه.يقول في سبب كون هذا الخوف مذموماً: (وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصوداً لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها)، وهذا تشبيه رائع، كأن هذه النفوس مثل الدابة، فالدابة إذا توانت في مسيرها احتاجت إلى سوط الراكب، فهذا الراكب كلما رآها توانت وتكاسلت ضربها بهذا السوط فسارت، فإذا ضربها وهي على أفضل ما يكون انطقعت به، ويكون بذلك متعدياً، فالخوف سوط يساق به المتواني عن الطاعة.قال: (ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه) كما في سورة الرحمن: ((
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:13]، والآلاء: النعم، وهذه الآية جاءت بعد آيات النعيم وكذلك بعد آيات العذاب، فإذا تذكر الإنسان النار وما فيها من أهوال استقام على أمر الله؛ فكان ذلك دافعاً له إلى طاعة الله، فمن هنا لا تعارض بين كونها من عذاب الله وبين كونها من نعم الله في الحياة الدنيا.قال رحمه الله تعالى: (قال
سفيان بن عيينة رحمه الله: [
خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا]. أخرجه
أبو نعيم) فإذا انتهوا عملوا الصالحات، وإذا عملوا الصالحات دخلوا الجنة وفازوا برضا الله وبرؤية الله.قال رحمه الله تعالى: (ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدر وإجلاله مقصود أيضاً)، فهذا أيضاً مطلوب، وهو أيضاً أن يكون لله تعالى الوقار والإجلال والهيبة والعظمة والحياء منه في النفوس مع الرغبة في الجنة ومع الخوف من النار.يقول: (ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عوناً على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعاً من ذلك وقاطعاً عنه فقد انعكس المقصود منه، ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة كان صاحبه معذوراً، وقد كان في السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار، فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك، إلا أن إسناده ضعيف)، ثم أخذ يذكر بعض ما جاء في كتاب الزهد للإمام
أحمد وغيره من مرويات طويلة.والمقصود أن بعض السلف وقع لهم حالات كما أشرنا، ولكن ذلك لم يخرجهم عن الاعتدال وعن القصد الذي هو السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في قلوبهم هيبة الله وإجلال الله تعالى والحياء من الله، مع شدة محبة الله والشوق إلى لقاء الله والتطلع إلى رؤية وجه الله، ومع شدة الرغبة والحرص والطمع في فضل الله وما عند الله عز وجل؛ وبذلك تجتمع هذه فتكون في القلب كالشجرة الواحدة وإن كان لها جذور، وهي شجرة الإيمان التي ضرب الله بها المثل، فقال تعالى: ((
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، وهذا الأكل هو الأعمال الصالحة، وهو مداومة ذكر الله وكف الجوارح عما حرم الله، وتسخيرها فيما يقرب إلى الله عز وجل، فتكون هذه الحالة باجتماع الأركان الثلاثة كما تقدم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.